ظرت في المرآة التي كانت في نهاية الطرقة في طريقنا للخروج، فذُهلت عن الحياة
لحظةً.. ووجدتني تتسارع بي السنون من مكان لآخر، وتهرول بي الأيام فلا أستطيع
بها لحاقًا. تغوص قدماي في بركة عميقة من أوحال الشيخوخة. لم يتعدّ عمري
الثلاثين! بيْد أن الأيام تزاحمت في دفتر عمري؛ حتى بلغتُ من الكبر عتيًّا،
وتكاثرت الشعرات البيض في رأسي؛ حتى اشتعل بها الرأس شيبًا.
رأيتني وقد انحنى ظهري حتى كدت ألمس ركبتيَّ. بدأ الضعف يدب في بدني وينخر
عظامي حتى وهنتُ، ورغم ذلك تتراجع هي في سنها. رغم بلوغها نصف قرن عامر من
العمر؛ لا أراها إلا شابة لم تزد عن الخامسة والعشرين، بل تزداد جمالاً كلما
مرت الأيام. لا يزيدها مرور الزمن إلا حيوية ونضارة. أزداد ضَعْفًا وتزداد
قوة.. يتقوس ظهري ويستقيم عودها.. يضعف بصري ويستحد نظرها.. ورغم ذلك تتملكني
المخاوف من شيء مجهول.. أخاف إذا تعثَّرَتْ أن تسير إلى نهاية الطريق مثلي فلا
تعود.. أتطلع لأراها موفورة الصحة دوني.. لا يهمني أمري بقدر ما أهتم لبهاء
صورتها، وحسن منظرها وقوة ساعديها..
أود أن تُطوَى صفحتي بعدما أضع رأسي في حجرها.. وترجِّلُ لي شعري الفضي اللامع
بيديها القويتين.. وتمَلِّسُ على وجهي الذي خطّ فيه الزمن خطوطًا متعرجة يمينًا
وشمالاً بظاهر سبابتها والوسطى.. وترمقني بعينيها الواسعتين الجذابتين فتذرفان
دمعتين حزينتين على فراقي.. وحينما ينتهي أمري وأبدأ في تذكر الأحداث في عالم
آخر أرى صورة تلك الشابة في العشرينيات.. ذات الوجه النضر.. والحيوية المحيرة..
والبصر الثاقب.. فأشتاق إلى العودة كي أسدي لها الخير من جديد..
عمرها ضعف عمري تقريبًا.. ولكن هكذا أريدها.. شابة في مقتبل الحياة.. ترتجف
أصابعي حينما أتخيلها في مثل حالي.. أبغي رؤيتها أنيقة.. صغيرة.. قوية.. فتية..
ولتنتهِ حياتنا معًا.. لا يهم.. المهم أن أضع رأسي في حجرها حين الرحيل..
ونتذكر حينها أيامنا معًا.. حينما كنت صغيرًا وكانت تلاعبني فأضحك حتى أنقلب
على ظهري..
اليوم فهمت معنى تلك النظرة التي لم تزل تصوبها نحوي.. نظرة الحب الممزوجة
بالرغبة في العطاء.. كنت أحاول أن أبادلها النظرة بأخت لها ولكن هيهات.. كانت
تخرج نظرتي باهتة دون معنى.. رجوتها يومًا أن تعلمني كيف أنظرها.. ابتسمت حتى
بان بياض أسنانها الصغيرة المتراصة في انتظام لافت.. فهمت أن لا طاقة لي ببلوغ
ذلك الأمل البعيد.
لم أتخيل حياتي من دونها.. ترى كيف تكون؟! هل ستطلع الشمس يومها؟! هل ستتلفع
الدنيا بالسواد حزنًا على فراقها؟! لا يهم.. المهم هو أن لا أكون حاضرًا لأشهد
هذا المشهد الحزين.. أود أن أنتظرها هناك.. أراقبها وهي تسير بين الناس بخُطى
الخير كما عودتني.. علمتني أن أتقن الحب.. لا أكتفي بمجرد الإحساس بتلك المشاعر
الباردة.. بل أتفنن في التعبير عنها لمن أحب.. كانت تفعل ذلك معي.. كانت تتفنن
في إرضائي.. وإذا أعرضتُ عنها يومًا : وجدتُها ـ وهي الأولى ـ تتودد إليّ لتزيل
سخيمة الصدور وتعود الحياة إلى طبيعتها من جديد..
ولكن.. رأيتها من أعلى وهي حزينة مغضبة.. كيف ـ والحال كذلك ـ ستستطيع العيش
دون أن تراني؟! كم كنت أنانيًّا حينما تقاذفت هذه الأفكار على رأسي!! ليس سهلاً
على هكذا قلب أن يعيش دون محبوبه!! وخاصة هي.. أذكر أني نُفِيتُ عنها عشرة أيام
دون رغبة مني ولا منها.. وعندما عُدْت لم أعرفها.. بل تنكَّرْتُ لذلك الكائن
الذي وجدته أمامي.. رأيت في عينيها كدرًا وعكارة لا أزال أذكرها حتى اللحظة..
أدركت حينها ـ وحينها فقط ـ كيف يمكن للحزن أن يسيطر على إنسان..
ورغم ذلك لم أفكر إلا في نفسي وكيف سأكون من دونها.. ولكن هل توارد على ذهني
كيف ستكون هي من دوني؟! كيف سيكون ذلك القلب الحاني بكل ما فيه من حب وشفقة
ولهفة واشتياق؟! وكيف ستستيقظ هي يومًا فلا تجدني على سريري؟! أو تحملق إلى
هاتفها منتظرةً اتصالاً مني فلا يأتي؟! أو على أقل تقدير تعلم أني أحيا في مكان
ما في هذا الكون الفسيح؟!
أراها تفتش عني في كل بقعة ضوء تقِلُّها الأرضُ أو تظِلُّها السماء.. تتفرس في
وجوه؛ الناس علَّها تجدني أو تجد من يشير إلي بنظرة من عينيه، أو كلمة من
شفتيه، أو حتى إشارة من سبابته..
رأيتها وقد نظرت إلى السماء تستجدي ربها بالدعوات أن تجدني أو تجد ما يدل
عليَّ.. لمحت عينيها وهي تدعو فخارت قواي ولبيت دعوتها..
عدت سريعًا مخترقًا جدر الرغبة والرهبة.. مخترقًا سحب المحبة وبحار الشوق وقفار
الغربة؛ لأقف مرة أخرى أمام المرآة وأحدّق في عينيها الواسعتين السوداوين
وأقبّل يديها.. لأقول وسط ذهولها: يفعل الله ما يريد