الأمانة العلمية في النقل
فإن موسوعة ثمرات المعارف قد تعددت فروعها ، وكثرت مشاربها، فليس من الإنصاف أن يتعب غيرنا في البحث والتدقيق ، ويقضي ليله مُكبّاً على التحصيل وجمع الفرائد العلمية ، وهذا يأتي ليأخذه جاهزا، بدون أن ينسب الفضل إلى أهله ، ولا ريب أن العادل في نقله ينسب الفضل إلى أهله ، ( ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ) .
وإن من الزور والظلم الذي ما بعده ظلم أن يتزيّا هذا الصنف من الناس بزي العلماء وهو غارق في مستنقع الجهل إلى الأذقان ، أو أن يتعاطى الحكمة وهو بليد ، أو أن يُزهِّد الناس وهو فاسد ، فإن المُدعي لما ليس عنده كلابس ثوبي زور .
ولا يظنن ظانٌّ أنه إذا أسند القول إلى قائله يقلل من أهمية الناقل ، ولو لم يكن له فضل إلا قوله عليه الصلاة والسلام
( الدال على الخير كفاعله ) لكفى، فله أجره كامل، وخيره واصل، مع أننا لولا نقله لما اطلعنا على ذلك الموضوع الذي أتحفنا به .
كذلك من يحاول الكتابة بمفرده، ولا يكون ناقلاً فحسب، بل يطلق لقلمه أن يسطر ما يستكِنُّ بين حناياه من غيرة على دينه، وحرصه على إصلاح أمته ومجتمعه، يكون أقوى تأثيراً في نفس القارئ من أن ينقل عن غيره، فإن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب مباشرة، فضلاً عن تفجير طاقاته الكامنة، وتنمية مواهبه بالكتابة والتمرس عليها، وفي مشاركة إخوانه في إدارة الحوار الجيد والمناقشة الهادفة، فنفسه تحمل دُرراً وجواهر لا يعرف قيمتها إلا بتجليتها وإظهارها، وقد أحسن العلامة أبو مسلم - رحمه الله - عندما شبه مواهب النفس بالجوهرة :
استنبط الــعــلم وزكِّ الــعـــمــــلا *** ولا تـــعـــش بـــغـــرةٍ سبهلـلا
لا تترك الأنفاس في الجهل سُـدى *** أدرك من جد وفي الجد الــعلا
جــوهـرة النـفس اذا ضـــيعــتهـــا *** في لعب لم تـــلفِ مــنها بــدلا
رشّحـك الـــحــــق لأمر جــــــلــــلٍ *** تُدركِهُ إذا ركــبــت الجـــلـــلا
لـو لم يُــــرد قُـــربك مـن جـــنــابه *** لم يهبِ العقل ويـهدي السُّبلا
إن العـلــــوم كالنـــجـــوم كـــــثرة *** فاعتنق الشمسَ وغادر زُحلا
أما الناقل فقط ، فهو يحكم على مواهبه وطاقاته بالذبول والاضمحلال حتى يتبلد إحساسه وعقله، فلا يعي شيئاً إلا النقل مما هب ودب، نافعاً كان أو غير نافع .
إن من ننقل عنهم كانوا يوماً من الأيام مثلي ومثلك ، ولكن طارت بهم همتهم إلى العلياء، فبرعوا ونبغوا، ولم يتأتى ذلك بكتابة سطرين ، أو بقراءة صفحتين ، أو مطالعة صحيفة أو مجلة ، بل تشرَّبوا سائر المعارف ، وقرأوا كل ما وقعت عليه عيونهم ، حتى يلقحوا عقولهم ، فأثمرت يانع الثمار، وكان منهم الكاتب والأديب والفقيه والصحفي والمحلل الاقتصادي، والأستاذ التربوي والاجتماعي ، وصدقت كلمة الزمخشري في كثير منا:
ســـهـــري لــتنقيح العلوم ألـذ لي *** من وصل غانية وطيب عناقِ
أأبيتُ سهران الدجى وتبيتُه نومـاً *** وتــبغـــي بــعـد ذاك لــحــاقي
ولا أعني هنا مطلقا أن لا يُنمِّي المرء مواهبه، أو أن يُحلِّي جِيد كلامه ببليغ القول وطيب الحكم، وأصناف المعارف، ولكن لا بد أن ينسب الفضل لأهله ، لذلك تأتي أهمية التوثيق العلمي ، والأمانة العلمية، وأمانة النقل، ولا يغض من قيمة المرء أن يقول : هذا من كلام فلان، أو هذا ما أشار إليه فلان، أو وجدته في كتاب كذا، أو نقلته من مجلة بعينها، أو جريدة معينة، أو الموقع الفلاني، لا يضره ذلك شيئاً بل يرفع من مكانته ، ويشرُف عند الناس بصدق القول وأمانة النقل .
ولا يعزب عن البال بأن الواحد منا يقرأ كثيراً مما يكتبه إخواننا ، بعضه يُصدّق والبعض الآخر لا يمكن تصديقه، فيأتي هذا فينقله بدون توثيق، فيجد من التكذيب والسخرية والاستهزاء ما هو في غنىً عنه، وكان في سلامة وراحة بال لو نسب القول إلى قائله ، وجعل العُهدة على القائل ، على أن التمحيص أمر مطلوب ، وسيأتي بيانه - أن شاء الله - بعد حين .
إن كثيراً من السرقات العلمية، من نقل بحوث كاملة أو كتب بأسرها أو مقالات لمؤلفيها حَدَت بالعديد من المؤسسات أن تضع قيوداً وضوابط لمنع ذلك كله، أو على أقل تقدير للحد منه ، وكان أن ظهر ما يسمى ( بحقوق الملكية الفكرية )، ( وحقوق الطبع محفوظة ) وما شاكلها من سائر التحذيرات حتى يكفوا من حدة هذا التيار العارم الذي لم يُبقِ لمؤلف حقه فيما ألَّف، ولا لمصنف نصيباً فيما صنف، أو لكاتب فيما كتب.
ورغم ذلك يبقى ضمير الإنسان ومراقبته لخالقه، فهناك اختلاسات وسرقات علمية متعددة، تحدث في الخفاء، فإذا غاب الرقيب فليتذكر رب كل رقيب، فإنه عن أحد لا يغيب .